مع ظهور العجز والإخفاقات عند النخبة في مطلع الثمانينات والتخبط بين القدرة على مواجهة قمع الأنظمة ودفع فاتورة الدور الطليعي الملقى على عاتقها من جهة والعجز على فهم الصراع وتحديد أولوياته لمواجهة الخطر الخارجي والإنخراط في دور وطني مقاوم ,بدأت تنموا مظاهر ثقافية وسياسية هجينة مابين المصالحة الطبقية والتهاون الفكري والترف السياسي , توج كل ذلك حين انتقلت المعارضة إلى جبهة وطنية من خلال صفقات سياسية مسبقة الدفع .
على أثر ذلك حصلت انشقاقات ايضا داخل هذه الأحزاب وتحديدا الحزب الشيوعي السوري والحزب الناصري إثر صراع بين القيادات وبدأ التفريخ الإيديولوجي لكي يفقس الصيصان السياسية لتصنيع الديوك , وكان جل ما تطمح اليه هذه الدكاكين هو تصنيع ديوك تصيح بصوت عال
هنا ومنذ هذه اللحظة بدأت حالة تململ وتمرد عند الشباب المتحمس والخروج عن طور التنظيمات التقليدية والإلتفاف على الفكر الماركسي أما بتطعيم لينيني وإمامقبلات تروتسكية أو بهارات ستالينية ,حتى البعض طعمه بالعفلقية والناصرية .
في هذه الفوضى السياسية وحماس بعض الشباب الذين كفروا بأشكال العمل السياسي المقعد ,ظهر النزق الثوري على بعض التنظيمات الوليدة كرابطة العمل الشيوعي ,والتي كان جل كوادرها من الأحزاب القومية التقليدية , وكان معظم منتسبيها من الإنتحاريين السياسيين .
في هذا المناخ بدأ الشباب يتساقط ويتهاوى في سباق محموم نحو الصدام مع السلطة من خلال النهج الذي اتبعته بعض الأحزاب الثوراوية ,هذا من جهة ,من ثانية تنامت الصراعات بين تلك القوى الناشئة منها والعريق تاريخيا بأسلوب استعراضي لا يختلف عن دور عرض الأزياء سوى (بالستيل) الثوري الذي كان يعتمد على لحية وشعر طويل عند الذكور وبعضهم كان يسرف بارتداء قبعة تشي جيفارة , وانتشرت بين الإناث مظاهر الخشونة وعدم الأناقة في بعض الأحيان وقبعة جيفارا هي القاسم المشترك بين الجيل الثوري.
في هذا الجو المرتبك كان يتحرك عدد كبير ايضا من الشباب والطليعة المتوازنة التي بدأت تدرس الظاهرة وتفهم اسبابها بعمق تاريخي وتظهر ملامحها في مساهمة لخلق الوعي السياسي بين هذه الشريحة خاصة الشريحة الطلابية التي تعرضت لأكبر حالة تظليل سياسي وثوري وخيانة أيديولوجية ووطنية من قيادات تحالفت مع الأخوان المسلمين الذين كانوا يمارسون الإرهاب ويفجرون السيارات المفخخة في شوارع وساحات المدن السورية .
ولكي اكون دقيقا وصريحا كان المكتب السياسي أكثر الأحزاب غرابة في ترتيبات أولوياته وتشكيل تحالفاته حين دعم حركة الأخوان المدعومة من دول متل بريطانيا وحلفائها وبعض دول الجوار .
ولم تكن قيادات رابطة العمل الشيوعي أكثر حكمة في دفع كوادرها للعمل في ظروف انتحارية ,بشكل استفزازي للنظام وممارسات غير أخلاقية أدت بخيرة الشباب والطاقات العظيمة للسقوط في هذا الوهم الكبير , كان أكثرهم عرضة للسقوط هم المتحمسين وأكثرهم مصداقية وقدرة على العطاء .
في هكذا أجواء ظهرت طبقة من الشباب والشابات اصحاب المظاهر الثورية ومنتجي الكلام المفخم من أبناء الدكاكين السياسية, عملهم اليومي فقط الكلام الرخيص و التشويه والدس والتبخيس في حق الآخر الذي لا ينسجم مع تفكيرهم .
ربما تنطبق عليهم تسمية الطابور السادس ,كون الطابور الخامس مهامه مختلفة ,وقاد هؤلاء أشرس حملة تشويه بحق الشرفاء والمتفانين والنشطاء بإرسال أشارات استفهام حول شخصياتهم ونظرات من الريب حول سلوكهم وتسريب اتهامات عشوائية, تارة انه ابن فلان ووالده مرتشي ,وتارة أنه (نفسيته حامضة) أو مدعيا ,وأسوأ هذه الإشاعات هو انه (مخبر ) وهذا يكفي لحرق أي انسان في بيئته وقتل روحه ومعنوياته وعزله عن محيطه , وكان يجد نفسه اكثر الناس نظافة وطهرا وإخلاصا ونبلا في موقع المتهم بل المصنف بأبشع الصفاة من قبل اشخاص هم أسوأ نموذج اجتماعي .
هذه الحالة شاهدتها بأم عيني وكنت من الشهود على عصرها ,لكنها اليوم تجازوت الحدود وتطورت لتصبح ظاهرة عربية بامتياز ,في سمة عامة يمارسها الشباب المثقف على أعلى مستوى من خلال حملات التشويه التي يتلقفها المثقف العربي من اول مصدر يقع عليه ويتناولها ويتبناها ويقوم بنشرها دون أن يكلف نفسه عناء البحث عن الحقيقة فيعتمد على تسريبات قد تكون مخابراتية أو صحفية او حتى من عدو يتقن فن اللعب .
فلم تعد تتجرأ وتشيد بشخصية سياسية وطنية إلا وتجد من يتنطح لك بضخ عشرات المعلومات والأوصاف والنعوت التي تسقط الصفات الوطنية عن هذا وذاك, ويعتبرهم انهم احجار شطرنج في يد الأعداء , ولم يشفع لهؤلاء حتى موتهم على يد أعداهم ,حين تواجه قائلا لكنهم قتلوا على يد أعدائهم !,فيجيبك مسرعا لقد خلص دوره .
لدرجة أننا لم نعد نعثر على شخصية وطنية كمثل أعلى ,حين تتحدث عن عبد الناصر تجد عشرات الكتب والصحافين والكتاب يحملونه مسؤولية التأخر العربي وتخريب وافقار مصر , متناسين اكبر انجازان لعبد الناصر يكفياه شرفا لو لم يعمل غيرهما في حياته وهما بناء السد العالي وتاميمم قناة السويس ,التي تعيش مصر اليوم من عائداتهمأ.
تتحدث عن حسن نصرالله وحزب الله صانعي الإنتصارات الوحيدة في تاريخ العرب وصانعي المجد في زمن الذلة ,تجد مئات الأفواه تتنطح لك ويلتقي العلماني والروحاني والشيوعي والسلفي بوصف واحد وتقليل شأن الظاهرة وتقليل شأن الرجل.
لم يتجرأ اليوم ثلاث ارباع المثقفين العرب بتسمية الأشياء بأسمائها في العراق ,لا عن الأسباب ولا عن المسببات ولا عن الخيانة ولا عن البطولة الحقيقية ولا عن الصدمة ,ولا عن دور العرب ولا عن السماسرة العالميين ولا عن المرتزقة العراقية في الداخل والخارج , ولا عن الدمار الشامل الذي اصاب العراق ولا عن سيطرة الأكراد على كل العراق بعد أن أقاموا دولتهم وأخذو حصة الأسد من أشلاء العراق , تجدهم بالإجماع يختصروا مخاضات تاريخية عمرها مئة عام ويعيدون الأسباب جميعها لصدام حسين ,فيبرؤون جميع السفلة من أجانب وعرب وعجم .
وهكذا بدأنا نتقن فن التشويه وأصبحنا ضالعين بقتل الأجنة قبل أن تولد ,وأكثر براعة في شعوب الأرض قاطبة في تشويه الأشياء الجميلة والظواهر الجميلة , لأننا نعجز عن تجميل أنفسنا فنشوه ما هو جميل كي نتساوى معه .